Subscribe to updates

Saturday, November 1, 2008

في حضرة الغائب

في حضرة الغائب
د. واصف منصور
في أربعينية محمود درويش

هل حقا رحل محمود درويش؟ نحتاج لوقت طويل كي نصدّق الخبر الذي سمعناه.
هل توقف قلبه كما تتوقف قلوب باقي البشر؟
لقد قال بعد عملية القلب الأولى التي أجريت له عام 1984 (لقد توقف قلبي لدقيقتين، لقد رأيت نفسي أسبح فوق غيوم بيضاء، تذكرت طفولتي كلها، استسلمت للموت، وشعرت بالألم فقط عندما عدت للحياة).
وبعد العملية الثانية عام 1998 قال: (أنا لا أخشى الموت الآن، اكتشفت أمرا أصعب من الموت وهو فكرة الخلود.. أن تكون خالدا، هو العذاب الحقيقي).
لكن لم نقرأ ما كان سيقوله بعد العملية الثالثة. لقد جاهد حتى يؤخر موعده مع الموت.
أريد أن أحيا
فلي عمل على ظهر السفينة
على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
ولكنه كان يرى النهاية قادمة من داخله، من شرايينه التي غدرت به وهو في قمة عطائه. فلذلك قال للشاعر المتوكل طه عندما أبلغه أن السلطة الوطنية الفلسطينية أصدرت طابعا بريديا عليه صورته، قال له (لماذا هذا التأبين المبكر؟). وعندما كرّمته بلدية رام الله بإطلاق اسمه على أحد أهم ميادينها قبل أشهر قال: (أودّ أن أشكر بأعمق المشاعر والعواطف مبادرة بلدية رام الله، ولكن مكاني ليس هنا، لأن الموتى لا يحضرون حفل تأبينهم. وما استمعت إليه اليوم هو أفضل تأبين أودّ أن أسمعه فيما بعد).



لقد كان يرى الموت قادما، ففتح حوارا معه
أيها الموت انتظر
حتى أعدّ فرشاة أسناني وصابوني
وماكنة الحلاقة والكولونيا والثياب
ويا موت انتظر
حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع وصحتي
وحتى عندما مارس الرهان مع الموت وتقمّص شخصية لاعب النرد قائلا:
أعمّد ريشتي بغيم البحيرة
تم أطيل سلامي على الناصريّ الذي لا يموت
لأنه به نفس الله
والله حظ النبي
ومن حسن حظي أني جار الألوهة
ثم أرتدّ مستسلما، مقّرا بهزيمته أمام الموت قائلا:
من سوء حظي أن الصليب هو السّلم الأزلي إلى غدنا
ولكنه بالقطع لم يكن يخاف الموت، بل وكان يتهيأ له قائلا:
أعدّوا لي القبر أوسع من هذه الأرض
أقوى من الأرض
قصرا يلخّص بحرا بنافذة من سحاب
على فرس الغيم والغيم أبيض
يهتزّ حولي
ويرسم لأسمي تاجا وقوس قباب
أعدّو لي العرش من ريش مليون نسر
اسمحوا لي أن اقرأ بعض ما كتبه صديقه الشاعر غسان زقطان عن أيامه الأخيرة في رام الله: (في الشهور الأخيرة كان منهمكا تماما للإعداد لموته وترتيب رحيله. هاتف معظم أصدقائه، وتذكرهم واحدا واحدا. ذهب إلى قصر الثقافة وأحيا آخر أمسية شعرية له في بلاده. وقف أمام جمهوره ليقدم اعتراف الشاعر وحكمته، وكان أوصى المنظّمين بتوزيع بطاقات الدخول على الناس وليس على الخاصة، والتقليل قدر الإمكان من الرسميين وساكني الصفوف الأمامية. ذهب إلى بيت العائلة في "الجديدة"، نام في المنزل، وحلق ذقنه على مرأى من إخوته. كان يرتب ذكرياته بدأب الذاهب، تاركا إشارته في المكان، معنيا بأن لا ينسى).
يرحل محمود درويش، يرحل شاعر الأرض الذي مزج الحب بالوطن، والثورة بالإنسان، والقضية بالأدب، والذي علّمنا كيف نرافق الموت ونتغلّب عليه، وكيف نتحوّل من ضحايا إلى حراب تخترق صدور العابثين بنا.
يرحل محمود الذي انتظرناه ألف عام بعد رحيل المتنبي، فهل علينا أن ننتظر ظهور المتنبي الجديد بقدر ما انتظرنا خلافة محمود للمتنبي.
يرحل محمود الذي كان منذ البدء شاعرا حقيقا، وبدفعة واحدة نقل الشعر من مجاله النخبوي إلى مجاله الشعبي، ودون أن يسقط في الشعبوية.. كان الشاعر الذي لم تتسع القاعات لمحبيه فأنشد في الساحات وملاعب كرة القدم.
يرحل محمود الذي كان واحدا من أكبر شعراء الإنسانية، وكانت أعماله منحازة للحرية والمحبة في مواجهة الظلم والكره. فقد كنت التصديق لمقولة أن لحظة ميلاد الشاعر هي لحظة ميلاد موقف معارض للسلطة.
غاص في مأساة شعبه، وجعل منها مأساة إنسانية تلامس وجدان كل محبي العدل والحق.فاختلطت نهنهات الفلسطينيين مع عذابات الفيتناميين في دلتا الميكونغ، والعراقيين في الفلّوجة وأبو غريب، مع أنّات قبائل المايا والأنكا والبوشمن في براري الانديز والروكي واستراليا.
يرحل محمود بعد أن ألقى ظلالا وارفة على أدبنا العربي الحديث، واحتل صدارة الذاكرة العربية الجماعية عندما استطاع بسخريته اللاذعة أن يجسّد واقع ووقائع الحاكم العربي في (خطب الدكتاتور)، وأن يجسّد للإنسان العربي خصمه ببساطة قوله: (أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا)، وأن يفتح عين الإنسان العربي على بشاعة واقعه وهو يدلي بشهادته (بيان في وصف حالتنا).
يرحل محمود الذي كان يمقت الشفقة، ويرفض محاباته كفلسطيني قائلا: (ارحمونا من هذا الحب القاسي) ويقبل النقد حتى لو كان جارحا، ويقول: (طبعا أنا فلسطيني وشاعر فلسطيني، ولكن لا أستطيع أن أقبل بأن أعرّف بأنني شاعر القضية الفلسطينية فقط، وبأن يدرج شعري في سياق الكلام عن القضية فقط، وكأنني مؤرخ بالشعر لهذه القضية). وكان بحق رائد المشروع الثقافي الفلسطيني
يرحل محمود الذي أستطيع القول بحكم مصاحبتي واقترابي منه منذ ديسمبر 1972، إنني نادرا ما وجدت من يسعى لتثقيف نفسه مثله، دائم القلق إزاء كتابته الشعرية، ولعل هذا هو سرّ توهج كتاباته، وظل يقول: (مازلت أشعر بأن الشعر لم يؤد دوره بعد، وهذا ما يجعلني أجرّب وأطوّر وأجدّد باستمرار). لقد فتح نوافذ جديدة للقول الشعري، فنمت على صوته أجيال من الشعر على اتساع رقعة وطننا العربي.
وأشهد أن محمود لم يكن يحب البقاء كثيرا تحت الأضواء، وكان يفضل على ذلك الاختلاء بذاته. من هنا لم يكن قادرا أو راغبا في خلق صداقات كثيرة مع محبيه وعارفيه. كان يمقت الأغبياء وثقيلي الظل الذين يستثيرون حدّة مزاجه وسرعة غضبه. لم يكن يحب الإطراء والثناء، وخاصة بحضوره، وكان خجولا إلى حد احمرار الوجه عند أي لحظة إثارة.

فيا أخانا الحاضر الغائب.
كل الكلمات لا تكفي للتعبير عن جلال الرزء.
وهل تركت لنا شيئا من الكلمات لنرثيك بها؟ وهل أبقيت لنا من الصور لنستخدمها عند وصف فجيعتنا برحيلك.
مثلما يحدث عند نضوج الثمار تسقط، سقطت. سقطت وأنت في عزّ توهجك. سقطت وأنت تصعد من سماء لأخرى، ونحن نصعد معك، فعرفنا العالم بشعرك وكوفية ياسر عرفات. فماذا تبقّى منّا بعدكما؟ وماذا تبقّى لنا؟! فترانا نبكيك مولولين: يا وحدنا، صارخين مع أخيك الذي لم تلده أمك سميح القاسم: لماذا تموت إذن؟ ولماذا نعيش إذن؟!.
يا أجمل أصواتنا وأغانينا، يا أجمل قصائدنا، يا أجمل أحلامنا، ويا أعلى قاماتنا وأسطع أقمارنا. لا يمكن أن نرثيك أو نبكيك، فنحن من يستحق الرثاء بعدك.
هل نقول ما قلته وأنت تؤبّن صديقك إميل حبيبي (إغفر لنا أننا سنعود بعد قليل إلى أنفسنا ناقصين).
أم نقول ما قلته في أربعين صديقك محمد الماغوط (أنت الآن في غيابك أقلّ موتا منّا، وأكثر حياة منّا).
لقد أكدت بموتك التراجيديا الفلسطينية التي قلت عنها ذات مرة.. لا يصل الحبيب إلى الحبيب، إلا شريدا أو شهيد.
لقد تفتّحت جراحنا حين سمعنا نعيك، وهرع كل واحد منا إلى ذاكرته ليستعيد صورة لك. فلماذا تركتنا وحيدين كحصان أبيك.وتذكرت شخصيا أنني عندما قدمتك في مسرح محمد الخامس بالرباط في ديسمبر 1986 قلت عنك (فأنت قطعة أرض فزّت وانتفضت واتخذت هيئة شاعر).
لقد استقرّيت في قلب كل فلسطيني وكل عربي، حتى صار كل واحد يعتبرك جزءا من قلبه، فاعتبر كل واحد منا فقدانك مصابا شخصيا له.
لقد كان حضورك في حياتنا يتجلّى كدرّة فريدة قدّمها الرب لهذا الشعب المشرّد. لذلك ولمجرد أن شعرت بأن الفلسطينيين لم يعودوا استثناءا بعدما حصل في غزة، لم تعد لديك قدرة على المقاومة فمتّ، لا لم تمت، بل ماتت همومك وآلامك من جرّاء ما حدث. فهل اخترت الموت أم أنه هو الذي اختارك؟ لا، ليس هذا ولا ذاك، بل نحن الذين ضغطنا على شرايينك حتى انفجرت، لأننا لم نسمعك وأنت تدمدم.
لولا الحياء والظلام لزرت غزة
دون أن أعرف الطريق إلى بيت أبي سفيان الجديد
ولا رسم النبي الجديد
ولولا أن محمدا هو خاتم الأنبياء
لصار لكل عصابة نبي
ولكل صحابي ميليشيا
فيا محمود، يا من كنت الاسم الحركي لفلسطين، يا من قال عنك القائد الشهيد ياسر عرفات: إذا كان لفلسطين قائد عام اسمه ياسر عرفات، فإن لها شاعر عام اسمه محمود درويش.
يا محمود، يا أمير الشعر وأمير الشعب.. يحزننا أنك وأن كنت كتبت قصائد الخلود، رحلت قبل أن تكتب قصيدة الانتصار التي حلمنا أن نسمعها بصوتك أو على الأقل أن نقرأها لك.
لقد توحدّنا جميعا ورائك..
توحدّنا في السير ورائك منذ أن صرخت "سجل أنا عربي" إلى أن صرخت " أيها المارّون بين الكلمات العابرة... آن أن تنصرفوا.. وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا".
توحّدنا وراء كلماتك التي وجّهها الشهيد ياسر عرفات للمجتمع الدولي في نيويورك عام 1974 (جئتكم بغصن الزيتون بيد وببندقية الثائر في الأخرى، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي).. تماما كما وحّدتنا كلماتك الواردة في (وثيقة الاستقلال) التي أعلنها المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988.
توحّدنا في الحداد عليك، فلسطين كلها.. حجرا وشجرا وبشرا توشّحت السواد حدادا عليك. فأنت من أعطى للكفاح المسلح الفلسطيني خلفيته الإنسانية البديعة، بل وكنت ترسم للفدائيين مسارب ودروب العودة، وتحثهم على السير فوق الأشواك لتحقيق الحلم الذي كان أكبر من الواقع... ما أكبر الفكرة، ما اصغر الدولة. فكنت رئيسا مدى الحياة لدولة فلسطين.
خسارتنا يا محمود ليس أننا فقدنا فيك الشاعر الذي أعطى كل هذا الإبداع، وإنما لأنه ذهب وهو في أوج توهجه، ولن يعطينا إبداعا جديدا، وظلت قصيدته مفتوحة على اللانهائي.
أخي محمود... نعم على هذه الأرض ما يستحق الحياة، فهي كما قلت سيدة الأرض، أم البدايات وأم النهايات.. ولكن سببا آخر أضيف قبل أربعين يوما، أنها احتضنتك في قلبها.
سلام عليك يا محمود، فمن حسن حظنا أننا رافقناك أو عايشناك أو عاصرناك، أو على الأقل قرأنا قصائدك طازجة.

د. واصف منصور
الرباط في 17 سبتمبر/أيلول 2008

No comments:

Post a Comment