Subscribe to updates

Sunday, November 9, 2008

الثقافة العذراء

الثقافة العذراء
بقلم : خيري منصور
شاعر وكاتب من الاردن
عندما قرأت كتاب 'سوسيولوجيا الحب العذري' لأول مرة، لم اكن قد التقيت مؤلفه الباحث المعروف د. طاهر لبيب، وكانت امامي الفرصة لمقاربة بين عدة اطروحات مكرسة لهذه الظاهرة، ومتفاوتة من حيث المنهج والقيمة منها كتاب د. صادق جلال العظم عن الحب العذري، وكتاب دينيس دو رجمون عن الحب والغرب اضافة الى كتابات أخرى في النطاق الاكاديمي التقليدي.
وكان امتياز كتاب 'سوسيولوجيا الحب العذري' لطاهر لبيب في كونه غادر متردم الكتابة عن الحب العذري، ووظّف ثقافة عميقة ومن خلال بعد اجتماعي ـ سياسي لاستقراء هذه الظاهرة في العمق، وحين التقيت د. طاهر لبيب على هامش ندوة فكرية قلت له ان كتابه فتح لي أفقا آخر على مفهوم العذرية التي لا تقتصر على الحب وما سعى اليه الشعراء العذريون من اصطناع العقبات من اجل توتير عواطفهم وتحويل الحرمان الى حلم ومطلب، وهذا ما اسميته في سياق آخر مباهج الحرمان. العذرية بهذا المعنى، تشمل كتابة التاريخ والفلسفة، ومعظم المنظومات المفاهيمية التي تقف على بعد مسافة من الواقع القابل للّمس باليد المجرّدة، وليس فقط الرؤية بالعين المجردة.
قدر تعلق الظاهرة بالتاريخ وكتابته كان المستشرق غروبناوم اول من لفت انتباهي الى الرؤية العذرية في كتابة التاريخ، وان كان قد أفرط لاسباب اعلم بعضها وأجهل بعضها الآخر في ادانة المؤرخين العرب، بسبب ميلهم الشديد الى الشخصانية، والانفعالية وبالتالي التفكير الرغائبي، فأحيانا يكتبون عمّا يودون حدوثه، عبر تأويل يصل الى حدّ التقويل!
ان عذرية الفلسفة مثلا تتجسّد لدى تيار مضاد للرشدية في تاريخ الفكر العربي، سواء كانت هذه العذرية عزوفا عن مواصلة الاسئلة والشكوك كما هو الحال لدى الغزالي او في الانصراف الى التأملات المجرّدة، فالفيلسوف الأعذر ان صح لنا مثل هذا الاشتقاق يصطنع هو الآخر عقبات بينه وبين الموضوعات التي يتصدّى لها، ويستلهم مصادر أخرى غير العقل لابقاء هذه الموضوعات خارج المعاينة والاحتكام الى المنطق، الفيلسوف الاعذر لا يجازف بأن يغرز أصابعه في الوجود كما فعل سيرين كيركغورد، ليقول بعد ذلك انه شمّ من خلال اصابعه رائحة العدم، وبالرغم من ادراج هذا الفيلسوف الوجودي في قائمة الوجوديين المتدينين، الا ان كتاباته وبعض ممارساته ومنها انهاء علاقة الحب مع صديقته روجينا تجزم بأنه حمل شكوكه معه حتى القبر، فهو كما قال اراد لصديقته ان تنعم باليقين والسعادة، وهي التي ستفقدهما معاً اذا عاشت معه وفي المجال المغناطيسي لتأملاته وهواجسه. وللعذرية كرؤية ومفهوم تجليات أدبية خارج الشعر ايضا، فالرواية قد تكون عذرية اذا أصرّ مؤلفها على تعقيمها من الاخطاء البشرية والمغامرات، وكل ما له صلة بالواقع الحيّ المتحرك، وهناك ايضا سير ذاتية عذرية، يعيد مؤلفوها انتاج حيواتهم وطفولاتهم محرّرة من الاخطاء والحماقات البريئة، وهذا النمط من الكتابات يقترح العشق عن بعد بديلا لأي مزاوجة او انصهار.
والشعر العذري ليس كما تقدمه التعريفات المدرسية المختزلة، انه احيانا لا علاقة له بالمرأة او الغَزَل بمعناه المتعارف عليه، فالتعامل مع الموت قد يكون عذريا، لأنه يبقى بعيدا عن دلالاته وحيثياته العميقة، وقد تستحق عدّة نصوص رومانسية كتبت عن الطبيعة والكون وعدة موضوعات أخرى ان تندرج في خانة الأدب العذري، لأن من لا يقرأ التراب باصابع قدميه الحافيتين سيبقى بعيدا عنه، وعن نطاق جاذبيته حيث التزاوج يصل ذروته بين الدودة والجذر وبين جمجمة تواصل الابتسام بكآبة وبين وردة ضلّت الطريق.
وللسياسة عذريتها ايضا، وأفضل أمثلة لها تقدمه معارضات لا تهدف الى الذهاب حتى نهاية الشوط، حيث تأخذ حقها من تداول السلطة، وقد عرف التاريخ العربي الحديث انماطا من المعارضات العذرية التي تصطنع هي الاخرى عقبات كي لا تحوّل الحب الى زواج، ولكي تبقى طافية على السطح ومحصّنة ضد أي اختبار يقيس جدارتها بالحكم، وثمة أحزاب يمكن وصفها بأنها عذرية، لأنها قررت البقاء على الهامش، وتحولت الى أندية اجتماعية رغم كل ما لديها من الشعارات السياسية، والفارق بين قيس لبنى وقيس ليلى وقيس السياسة العربية المعارض نظريا فقط، هو ان الأول جازف بنشر قصائد حبيبته فتسبب ذلك في حرمانه من وصالها، اما الثاني فهو اكثر حنكة في عذريته لأن كلامه محسوب، واحترازاته لا حدود لها، وخشيته من التأويل تدفعه الى ان يحسب حروفه بميزان الذهب!

'''

ان العذرية كمفهوم، هي نتاج ثقافة، يساهم في صياغتها نمط انتاج وعوامل بيئية، وموروث وجداني، بحيث تصبح نوعا من المنفى، مقابل ملكوت للواقع، وهي تقترن على الدوام بوقف التنفيذ، لأنها تحوّل الحرمان الى مطلب وهدف، حين يتاح لها ان تترجم من فكرة او شوق الى حقيقة تفتعل العقبات، ولن تعدم الحيلة في استعداء اي طرف يمكنه ان يبطل مفاعيلها!
وقد تكون الصوفية في أحد وجوهها نمطا من العذرية الوجودية، وبالرغم من أن فلسفة الحلول توهمنا بالانصهار والمزاوجة الا انها غالبا ما تأتي تعبيرا عن طلاق بائن بين الذات والمطلق، لهذا ما ان يترجل الصوفيّ من مرتفعاته المجردة ويخلع الخرقة كما فعل الحلاج حتى يصلب ويحرق ويتحول رماده الى حلول من طراز آخر هو حلول فيزيائي وليس ميتافيزيائياً، واذكر ان حوارا دار ذات ظهيرة بغدادية بيني وبين حارس ضريح الحلاج قال فيه الحارس بأن الضريح فارغ وان الحلاج الذي يحرسه هو ما تبقّى من الفكرة وليس ما تبقى من الجسد!

'''

المفارقة التي الحّ عليها معظم دارسي العذرية هي ان العفّة توظف من أجل مضاعفة الرّغبة، وبالتالي التوتير، وهذه بحدّ ذاتها ضرورة لشعر لا يبلغ ذروته الا باستكمال أدواته التي تبدأ من الحرمان وتنتهي بالوصال الذّهني.
هذا على الاقل ما قاله دنيس دورجمون وصادق جلال العظم، عبر مقتربين مختلفين، لكن الطاهر لبيب اعاد البعد السوسيولوجي المحذوف الى هذه الظاهرة، التي طالما عانت من قراءات اسقاطية.
ان الشاعر العذري يسعى الى الخسارة وان لم تكن هناك عقدة تحول دون الوصال يخترعها، وكذلك العذري السياسي الذي يرى دائما أن الوقت مبكر على السّعي نحو السّلطة، فالنقد أسهل بكثير من تعريض الاطروحة المضادة للاختبار.
والمشترك بين هذه العذريات التي تشمل السياسة والأدب والتاريخ هو انها جميعها تفاضل بين معاشرة الواقع وبين تخيل هذه المعاشرة لصالح المُتخيل، فهي في الحب عشق معفى من ضرائب الجسد، وفي السياسة طرح طهراني يخشى من تلويث الاقدام بالوحل، وفي الفلسفة هي انسحاب من حلبة الصراع الوجودي وذهاب طوعي الى الهامش، ولكي نخرج من مدار التوصيف لهذه العذريات التي احالت الحياة الى شكل من اشكال الاستمناء الفيتيشي علينا ان نبدأ من أول السطر. وأول السطر هو فقه تأسس على طلاق يسبق الزواج، وعلى موت تصبح الحياة كلّها مجرد جنازة في الطريق اليه ! وكما تتوقف دودة القز احيانا عند طور العذراء فإن هناك ثقافات يحدث لها ذلك!!!!

No comments:

Post a Comment